ترددت كثيراً قبل العودة للكتابة هنا، وخصوصاً في هذا الموضوع. أولاً لأني أخاف الوقوع في حلقة التكرار. وثانياً لأن ما أكتبه لا يتناغم مع النبرة المفضلة لتغييرين، ولا يصل المقررين. إلا أن آتاني صوت أمين الريحاني مؤنباً: "أيها الفاني، 'قل كلمتك وامشي!' "
لست من المناضلين الكبار الذين نزلو الشوارع لسنوات، واجهو قمع وصايات، وبطش أجهزة، ونظرات السخرية حيناً والإشفاق أحياناً من قبل سواد الناس. أولاً لوجودي عادة" خارج لبنان، وثانياً لأن الناس طبائع وقدرات، ولست من الموهوبين في الحشد والإحتشاد. فإن كان السالف ذكره ضرورة لتبرئة صاحب رأيٍ من تهمة التنظير، أعفيكم من متابعة القراءة، رأفةً بلحظاتٍ قيمة من عمركم، لا يجب اهدارها. الأمر نفسه ينطبق على من يتملكه كابوس "بدو يحبطنا، فبلا ما نعرف."
أما بعد...
لقد كشفت أزمة النفايات فشل النظام السياسي دون شك، وكأننا كنا نحتاج لدليل. هذا أمر لا يختلف عليه إثنان، وبالتالي، من العبث العزف على هذا الإيقاع. الإثارة تبدأ عند السؤال الأصعب: "هل كشفت أزمة النفايات عبثية المنطق الثوري في التغير، سواء كانت ثورة حمراء أو بيضاء أو مرقتة (كما يحلم البعض)؟ إن لم تحفز جبال النفايات أمام البيوت المواطنين للتحرك، ألا يدفع ذلك التغييريين للجلوس وإعادة الحساب؟
قد يكون خوف من يريد القضاء على النظام الحالي من الإعتراف بهذا الأمر، من أهم اللقاحات التي تحفظ صحة النظام وتعزز مناعته. مع الإشارة، أن اللقاح هو بالأصل ذات المادة التي من المفترض أن تسبب بالعلل القاتلة للجسم الملقح، لكن بجرعات متوازنة ذات فعل عكسي.
أسهل الأجوبة للهروب من الجواب الحقيقي هو الرهان على تراكم التأثير. الحديث عن توعية المجتمع ليرى فساد النظام بإداراته وأشخاصه، "فيثورو". مشكلة هذا المنطق أنه وليد فانتازيا حالمة تريد التصديق أن الناس لا تعلم. المجتمع اللبناني، كله، فردا" فردا" وبالجملة معه دكتورة في تشخيص النظام. يعلم فشله، وفساده، وعبثية القائمين عليه. لم ألتق مواطنا" واحدا" يزغرد مدحا" للنظام اللبناني، أو يعيش شبهة تطويب القيمين عليه قديسين وملائكة. قد يخصخص مواطن من هنا أو هناك بعد القضايا داعما" زعيما" من هنا أو هناك في قضية محددة، أو وفق منطق "نكاية بالطهارة، نتبول في ثيابنا"، لكني لم ألتقي مواطنا" واحدا" يحتاج من يقنعه بفساد النظام بالمجمل، والقيمين عليه.
ليش ما بتثورو؟
صرخة يلقيها المجتمع المدني في حضن المجتمع العام بصيغة الإتهام أكثر منها صيغة تساؤل. والاستنتاج لا يعدو كونه أحكام مهينة بحق الناس "الجاهلة، الراضية بالذل."
إن منطق نشر الوعي، منطق مقبول في كل حين. لكن من أهم عناصر حركية المجتمعات الإنسانية وأقلها تحليلا" في آن، هو دور اللاوعي الجماعي في تشكيل حركة المجتمع وتحديد خياراته. ولاوعي هنا لا يعني الجهل، بل الخبرات والمعطيات المتراكمة التي تتشكل منها الجينات الثقافية، والمجتمعية المؤثرة في حركة المجتمع بشكل تلقائي. بل ويمكننا القول أن اللاوعي المجتمعي هو المدماك الأساس في رسم المسار المجتمعي بكل تقلباته وتغيراته.
في اللاوعي المجتمعي العام، وضع المحيط الإقليمي. تجارب الشعوب الأخرى. حين بدأت حركة الشعوب العربية، قلنا لبنان حالة خاصة، وكان الرد: "ألم يقل حسني مبارك مصر ليست تونس، وقال بشار الأسد سوريا ليست مصر أو تونس؟". والآن أنا أتبنى (لغاية في نفسي) هذا المنطق المضاد. إذا تجارب الآخرين صالحة لأخذ العبر.
ما الذي حصل في تونس بعد الإطاحة بالنظام؟ فوضى، ثم تيار إسلامي، ثم فوضى، ثم عودة شخصيات من النظام السابق، والآن؟ حالة طوارئ. ونحن نتكلم عن تونس، أكثر المجتمعات العربية قدرة على التغيير، لأسباب مجتمعية، وتاريخية، ونقابية، إلخ...
ماذا عن مصر؟ سقوط نظام، فوضى، حكم عسكري، فوضى، تيار إسلامي، فوضى، ثم تولي وزير الدفاع السلطة ساجنا" الرئيس السابق، وتأجيل للاستحقاقات الدستورية الديمقراطية. حالة طوارئ مبطنة.
هل نتحدث عن ليبيا؟ سوريا؟ اليمن؟ البحرين؟ وقبلها كلها العراق؟ ومنهم من ينتظر وما بدلو تبديلا...
من الملفت أن لبنان حاليا" بكل مصائبه أكثر قابلية للعيش من الدول التي اندفعت لتغيير، بغض النظر عن تحليل الأسباب. لآن إنتاليجانسيا اللاواعي المجتمعي تأخذ بالنتائج ولا تعنيها الأسباب. ومن هنا، تسطيح القضية بإعتبار أن الشعب اللبناني لا يتحرك لأنه خمول وجاهل ولا يمتلك الرؤيا والدراية الفذة التي يتمتع بها دعاة الثورة، يعكس سذاجة من يتبنى هذا القول قبل أي شيء.
الملفت هنا أن إنتاليجانسيا دعاة التغيير لم تتعلم أي درس من تلك التجارب. لم تصل إلى نتيجة أن الدعوة إلى إسقاط النظام، بل والنجاح في ذلك لا يثمر إن لم تكن البدائل واضحة. بدائل تفصيلية أبعد من الشعارات. وإلا أدى سقوط الموجود إلى ما هو أسوء. فهل تفوق اللاواعي المجتمعي العام على تهور النزق الثوري لأحلام الحالمين؟
عندما يتخبط دعاة التغيير في تنظيم تحرك. هل يثق المجتمع بقدرتهم على تنظيم بلد؟ عندما يعتمد رواد الحراك المدني ديمقراطية توافقية في القرار، فتنتج عبثا" على طراز الديمقراطية التوافقية للنظام الموجود، Game Over...
عندما يفشل دعاة التغيير في إلتقاط القضية الجامعة على المستوى الوطني، وهو سوء النظام كهيكليه، ويتلهو بمعارك جانبية بنزعات شخصية مع مسؤول من هنا أو "زعيم" من هناك. غافلين أن ما يعاني منه البلد هو إدارة فشل وليس مجرد فشل في الإدارة، والفارق الكبير بين الحالتين.
لن أكرر نفسي، فقد ذكرتبشكل تفصيلي مشكلة التغيير في لبنان (وبلغة أقل ملل) في مقال "علي وعلى أصدقائي يا رب"، ولا يوجد الكثير لإضافة إليه سوى الحقيقه (برأيي) الصادمة: عندما يتغير شعار التغييريين من "بدنا نشنقكم كلكم" إلى منطق أكثر إستقطابا"، على سبيل المثال "حكمونا بغير نظام" مع إدراك البعد الإستراتيجي لهكذا توجه تغيري متناغم مع طرح واضح لنظام البديل، والعمل على التبشير به على الأرض وبين الناس، ومختلف التيارات والقوى المؤثرة في المجتمع، نبدأ برؤية الضوء في آخر النفق.
الناس هم من يقرر من يحكمهم، وفق النظام السياسي ومعادلاته. لكن المجتمع اللبناني لم يختر يوما" نظامه السياسي. إحتقار خيارات الناس يؤدي إلى إحتقار من قبل الناس. اعطو الناس فرصة التعرف على نظام بديل، نظام يعيد تشكيل السلطة، أقنعوهم أنه الأفضل لمستقبلهم، وينتهي دور من يريد التغيير.
من هناك، الشعب يختار ما يريد. من يريد تغيير المجتمع، عليه أن يدرك أنه خادما" له، وليس وصيا" عليه. من لا يثق بذكاء شعبه، فيحترمه ويتفهم نظرته للأمور، لا يستحق ثقة هذا الشعب ولا يحق له أن يطلب من الشعب أن يتفهمه.
0 comments:
Post a Comment