في التوصيف
النظام السياسي اللبناني بمؤسساته وسلطاته هو ماردٌ غير موجود. ما يحكم لبنان هو أقرب إلى تنظيم منه إلى نظام. تنظيمٌ يرتكز سلطانه على مراكز قوى تبعثر الشأن العام والرأي العام بين سندان عصبياتٍ ومطارق دول.
وإذا كان لبنان هو "الدولة" العربية الوحيدة التي لم تفرخ دكتاتوراً مطلقاً يحكم البلاد ويسيرها، فهذا يعود بالأصل إلى براعة التنظيم السياسي في إستغلال نظرية التنوع اللبناني من خلال إبتكار دكتاتورية متعددة الأقطاب. ونحن إذا استعرنا النظرية الدارونية حول النشوء والإرتقاء واسقطناها على النظم والتنظيمات الدكتاتورية، فإن دكتاتوريات الرجل الواحد التقليدية ليست إلا القرد في أسفل الحلقة. أما التنظيم السياسي اللبناني الحالي فهو الدكتاتورية الأكثر حنكة وخبثاً ودهاء. ففي حين يفرض "القائد" في الدكتاتوريات البدائية رؤيته، مسيطراً على نظام الحكم - والشعب من خلاله؛ فإن التنظيم السياسي اللبناني هو دكتاتورية تفرض نفسها على القيادات وتحدد منهجها ومصيرها، فتخص كل طرف سياسي بحصة من الدعم الشعبي تتناسب مع مدى ملاءمة هذا السياسي وخطابه لمتطلبات إستمرار وديمومة هذا التنظيم القبيح.
إنه لمن الخطأ أنسنة هذا التنظيم وتصويره وتجسيده من خلال شخصيات اللاعبين على مسرح السياسة اللبنانية احزاباً كانو أو أفراد. لا بل إن هذا التوجه بذاته يخدم بقاء هذه الدكتاتورية، حيث ينشغل الناس بالفرع عن الأصل، ويحرقون الوقت في نقاش النتائج بدل إستئصال الأسباب. إن هذا التنظيم بتركيبته ومنهجيته وثقافته لا يعدو كونه مسخاً ذو شخصية معنوية، لفظته الطبيعة خارج نطاق الرهافة الإنسانية والأخلاقية. مزيج ممضوغ من سذاجة المؤسسين الأوائل لل"دولة اللبنانية" ومصالح دول أدمنت نكهات البوفيه اللبناني فانغمست فيها واتخمتنا، إضافةً إلى الحاجات الآنية للبسطاء من الناس التي تدفعهم إلى رهن أرواحهم لذاك المسخ لتسلم أجسادهم. كان النتاج الطبيعي لهذا المزيج العفن، ما وصلنا من دستور ودولة ومؤسسات لا تتوافق مع المصالح والحاجات الوطنية ولا تنسجم مع التطلعات الحقيقية للبنانيين.
حصانة النظام
إن أبرز العناصر التي تساعد رموز الدكتاتوريات التقليدية على البقاء في السلطة لفترات طويلة يتمثل في مركزية القرار، حيث يمسك الدكتاتور وأخطبوته مفاصل الدولة بشكل كامل. غير أن أهم عوامل إنهيار الدكتاتوريات اياها هو تلك المركزية ذاتها. فالحكم المطلق ينتج مسؤليه مطلقة إذا ساءت الأمور. عندما تتدهور نواحي الحياة في الدول الدكتاتورية التقليدية، يصوب الشعب أصبع الإتهام في ألإتجاه الصحيح، مطبقاً المعادلة الأزلية المدمرة للدكتاتوريات: فلنسقط الدكتاتور، تسقط الأزمة معه.
التنظيم الدكتاتوري اللبناني أكثر ذكاءً من أن تضربه تلك المعادلة فتنهيه. "الدولة اللبنانية" ترتكز على تنظيم دكتاتوري كونفدرالي. يوزع هذا التنظيم سلطته الدكتاتورية على أحبار المناطق والمذاهب والأحزاب المتكاملة من خلال تناقضها. فتتشكل حول كل مركز قوى هالة استقطاب متعددة الأوجه -وسأعود إلى هذه النقطة في مقال آخر. تتناتش هذه الفئات فتات "الدولة" التي تقدم على موائد هذه الكونفدرالية. وعندما تسوء الأمور، يتجنب الجميع السبب الرئيسي المولد للأزمات، ويذهب كل طرف إلى ترف تراشق الإتهامات وتحميل المسؤليات. فينشغل الناس في تقييم ومحاكمة الأدوات بين مفاضلٍ لسيئ لتجنب أسوأ، ومكابرٍ يأبى الإعتراف أنه دعم الخطأ. في حين يرتاح التنظيم الدكتاتوري مبتسماً على أريكة التناقضات، يراقب المشهد من بعيد منتظراً اللحظة المناسبة لانتقاء الاكسسوار الأنسب من المتخاصمين، لتتزين به محظيات المسخ لسهرة المساء الآتي. ويتغير الاكسسوار مع مرور الأمسيات وتبدل المحظيات والملابس والأماكن. والمسخ هو هو منذ تأسيس الدولة وحتى تاريخ كتابة هذا المقال.
هل هناك إمكانية حقيقية للتغيير؟
إن السوأل بذاته جريمة. وهي جريمة رافقت كل منعطفات التغيير الكبرى عبر التاريخ الذي أثبت عبثية وسذاجة هذا التساؤل مرة بعد مرة. الجريمة ليست في السؤال بل في كونه جواباً ضمنياً يقدم مبرراً لعدم المحاولة، أو الإكتفاء بجولةٍ أولى من المواجهة هدفها إثبات عدم القدرة أكثر من كونها خطوةً جدية ومخلصة في الطريق الصحيح. لا حق لنا أن نطالب مسؤولاً متنفعاً منتفعاً من النظام القائم أن يزهد بنفسه وذاتيته واكتفائه في سبيل الوطن حين يتردد المواطن المتضرر المكوي المذبوح من هذا النظام عن لجم ذاتيته جانباً للتصدي والمواجهة دون شروط مسبقة ودون ضمانات.
منهجية التغيير يجب أن ترتكز على استراتجية واقعية لا على أماني وتمنيات. البداية في تحديد الهدف بصورة واضحة لا تقبل التأويل. لا يكفي القول بأن الموجود سيئ - فهذا مفروغ منه بإجماع اللبنانيين. المطلوب هو طرح بديل واضح ومفصل. إنه الحلم الذي يراه المواطن ويتلمسه من خلال الطرح، حقيقةً مقبلة تدغدغ الثورة الراقدة بين أضلاعه وتناديه بإلحاح كي يلقاها أو تفوته. هو بديل يشعر كل مواطن بالإطمئنان بأن الدولة بصيغتها المطروحة قادرة على احتواء هواجسه في الإطار الوطني العام. ومن ثم تحديد آلية الوصول إلى الناس -احزاباً وأفراد - لشرح القضية. وتسهيل الية اللحاق بهذا الركب بأقل التضحيات الممكنة.
في المقالات القادمة سأناقش الأفكار العملية للذهاب في هذا ألإتجاه. وهو-باعتقادي- طرح تفصيلي يبدأ بتنقية الثقافة الوطنية ويصل إلى تفصيل كيفية تنظيم مؤسسات الدولة وسلطاتها ( من الصفر. فأنا لا اعترف بالموجود ولا يعنيني إصلاحه)، مروراً بقوانين الإنتخاب وضمان الإستقلالية التامة التي تفصل -فعلياً- بين السلطة التنفيذية، والسلطات التشريعية، والسلطات القضائية. والأهم من هذا كله، كيفية الوصول بهذا الطرح إلى الرأي العام، آخذين بعين الإعتبار كل التحديات والعواقب.
هل هو حلمٌ شرد عن فضاء الواقع؟ ربما. ولكن التغيير، أي تغيير يبدأ بحلم -أو ربما جنون. ثقتي بفرص التغيير لا تزعزعها الصواعق ولا تزلزلها التحديات. بل اني أراها أمامي أشد وضوحاً من نور اللحظة الراهنة بكل تجلياتها. لا أراها مقبلةٌ فحسب بل اراها تنتظر شاكيةً وفي عيونها عتاب مؤلم. في حضنها الدافئ ترتاح طفلة الحرية ترضعها آمال اللقاء. وينتصب إلى جانبها صبا العزة والكرامة والمجد القادم.
0 comments:
Post a Comment